الحوكمة في المصارف السودانية وإعادة الاعمار
1 min read
د. عمر محجوب محمد الحسين
يشهد السودان حاليا أزمة لم يشهدها من قبل في تاريخه، فهذه الحرب المدمرة لم يحدث لها مثيل من ناحية الكلفة البشرية والاقتصادية، فلم يحدث أن دمرت مدينة أو نهبت أو هجر أهلها كما حدث في العاصمة الخرطوم وفي نيالا. ومع استمرار الحرب لا ينبغي الوقوف وتأمل الدمار، لكن يستوجب الأمر التفكير فيما يحدث بعد انتهاء الحرب والاستعداد لعملية إعادة الإعمار الشاملة على رغم من أن الدلائل تشير إلى أن الحكومة فشلت في إدارة طوارئ المرحلة دعك من حكومة طوارئ. لكن يمكن للسلطة وأجهزتها الوقوف على مشروع وطني موحد تحشد له كل الطاقات بحيث يكون قادرا على توفير شروط تعبئة الفوائض الاقتصادية، من خلال دعم الاستثمار، والسيطرة على الموارد الاقتصادية المهمة، وينبغي أن تكون المصارف في السودان هي رأس الرمح لإحداث التنمية وإعادة الإعمار،ونذكر هنا ما قامت به المصارف والدور المهم الذي لعبته في إعادة إعمار الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية التي اندلعت بين عامي 1865م – 1877م، رغم أن القطاع المصرفي أحد أكبر المتضررين بالحرب، بالإضافة إلى معاناتها قبل الحرب، فالكثير من بنوك السودان البالغ عددها 37 بنكا تعاني من عدم كفاية رأس المال، والتعثر المصرفي، وضعف أنظمة الحوكمة وضعف أنظمة الأمان، والفشل في تحقيق الحد الأدنى منمتطلبات معايير لجنة بازل، وعدم القدرة على التواصل مع القطاعات المصرفية والمالية حول العالم إما بسبب العقوبات الأمريكية أو عدم الثقة أو لأسباب فنية تتعلق بالأنظمة ومستويات الأمان، من جانب آخر تضخمت الالتزامات بالعملة الأجنبية منذ أن أعوم البنك المركزي سعر الجنيه، علما بأن 19 بنكا فقط اجتاز اختبار التحمل الأخير لمعرفة كيف سيكون أداؤها بعد تعويم قيمة الجنيه، كما أن نصف المصارف فقط استطاع إعادة خدماته الإلكترونية وبعد مشقة شديدة وليس بصورة منتظمة. إن متطلبات زيادة قدرات المصارف كبيرة وتتطلب جهدا مضاعفا لوضع المصارف في مقدمة قاطرة التنمية.
من أهم وسائل إصلاح القطاع المصرف الحوكمة المؤسسية (Governance)، حيث يتميز العمل في القطاع المصرفي عن غيره من القطاعات بأنه ذو مخاطر معقدة ومرتفعة، وفي السودان لم نجد مصرفا واحدا لديه دليل حوكمة منشور. وتشير حوكمة المصارف إلى نظم القواعد والممارسات والعمليات التي يتم من خلالها توجيه وإدارة المصارف والسيطرة عليها، والالتزام بالعمل وفقا للقوانين والنظم السائد، وتشملالآليات والهياكل المعمول بها لضمان إجراء عمليات البنك بطريقة مسؤولة وشفافة وحماية مصالح جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك المساهمين والمودعين والاقتصاد بصورة عامة. تعتبر الحوكمة المصرفية الفعالة أمرا بالغ الأهمية للحفاظ على استقرار النظام المالي وسلامته.تشمل الجوانب الرئيسية لحوكمة المصارف مجالس الإدارات، إدارة المخاطر، الامتثال التنظيمي، الضوابط الداخلية، حماية حقوق المساهمين، الشفافية والإفصاح، التعويضات التنفيذية، السلوك الأخلاقي والمسؤول، إشراك أصحاب المصلحة، التدقيق والرقابة الخارجية. أيضا للحوكمة محددات ومعايير وهي اما محددات الخارجية تشير إلى المناخ العام للاستثمار في الدولة، والذي يشمل القوانين، وكفاءة القطاع المالي، ودرجة تنافسية الأسواق، وكفاءة الأجهزة والهيئات الرقابية، وبعض المؤسسات ذاتية التنظيم، بالإضافة إلى المؤسسات الخاصة، وترجع أهمية المحددات الخارجية إلى أن وجودها يضمن تنفيذ القوانين والقواعد التي تضمن حسن الإدارة، وتقلل من التعارض بين العائد الاجتماعي والعائد الخاص، أما المحددات الداخلية تشير إلى القواعد والأسس التي تحدد كيفية اتخاذ القرارات وتوزيع السلطات داخل المصرف بين الجمعية العامة ومجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين، والتي يؤدى توافرها من ناحية وتطبيقها من ناحية أخرى إلى تقليل التعارض بين مصالح هذه الأطراف الثلاثة.
تتطلب عملية إعادة الإعمار تحريك عجلة الاقتصاد من خلال تحفيز الطلب الداخلي لتوفير فرص العمال وتشجيع الصادر ودعمه لزيادة الإيرادات من العملات الأجنبية، وتوفير مستلزمات الإنتاج للقطاعين الصناعي والزراعي والسلعي لاستعادة رأس المال المادي والبشري الذي خرج من العاصمة خلال الأزمة. ويلعب القطاع المصرفي دورا كبيرا في تحريك عجلة الاقتصاد في هذه مرحلة الإعمار مع القطاع الخاص الذي يعتبر تابعا في ازدهاره للقطاع المصرفي، وكلما قام هذان القطاعان بدورهما وفر المال وقللا من عجز مالية الحكومة، والحد من اللجوء إلى الاستدانة الداخلية والخارجية. وعلى الحكومة أن تعمل منذ البداية على تحسين بيئة الاستثمار والأعمال لدعم القطاع الخاص والقطاع المصرفي مما يساعد في على عودة رؤوس الأموال المحلية والأجنبية التي غادرت بسبب الحرب أو حتى رؤوس الأموال التي كانت قد غادرت قبل الحرب بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي، ومن أدوار المصارف المهمة تمويل مشاريع البنية التحتية: قدمت البنوك رأس المال الأساسي لبناء البنية التحتية، بما في ذلك الطرق والجسور والسكك الحديدية والمباني العامة، أيضا يقع على عاتق المصارف توفير الائتمان للشركات والمزارعين: مما يساعد على إنعاش الاقتصاد، حيث يسمح هذا الائتمان للأفراد بالاستثمار في مشاريع جديدة، وشراء المعدات، وتوسيع عملياتهم، كما تعمل المصارف على دعم جهود إعادة الإعمار الحكومية لتسهيل توزيع الأموال لمختلف برامج إعادة الإعمار. أيضا تعزيز المؤسسات التعليمية والاجتماعية: من خلال استثمرت في المبادرات التعليمية والاجتماعية، بما في ذلك إنشاء المدارس والكليات، أيضا تشجيع التنويع الاقتصادي، من خلال دعم المصارف لسياسات التنويع الاقتصادي من خلال الاستثمار في الصناعات غير الزراعية والصناعات التحويلية والارتقاء بمستوى منتجات الصادر، وهذا التنويع سوف يحد من اعتماد بلادنا الاقتصادي على قطاع واحد بصورة كبيرة وبالتالي تعزيز الاستقرار على المدى الطويل. من المهم أن نتذكر أن دور المصارف في فترات إعادة الإعمار لم يكن عملها خاليا من الاتهامات والمشاكل. فمن خلال التجارب (الولايات المتحدة الأمريكية) كانت هناك حالات من الفساد والمضاربات المالية، وهنا يأتي دور الحوكمة المؤسسية. سوف تكون التحديات الاقتصادية والاجتماعية لإعادة الإعمار معقدة ومتعددة الأوجه، لذلك سوف يتنوع دور المصارف تبعا لموقعها وقيادتها وسياساتها المحددة. إن مرحلة إعادة الإعمار هي أيضا مرحلة إعادة بناء الدولةالتي تتطلّب حكومة تشاركية ينخرط فيها المجتمع المدني والأحزاب السياسية والتجمعات الشبابية والنقابات العمالية والمهنية. لذلك يجب أن تتضمن هذه العملية تغييرا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا شاملا مبنيا على عقد اجتماعي جديد. وسوف يعتمد ذلك إلى حد كبير على نوعية الهيكلية السياسية الجديدة، ومدى استعداد أطرافها على الاستجابة، واستيعاب الأسباب الحقيقية وراء هذه الأزمة التي تمر بها بلادنا، ومدى صدق رغبتنا في أن تكون المرحلة القادمة مرحلة تغيير على مستوى التفكير السياسي والاجتماعي، وتغليب مصلحة الوطن، وليس مجرد عملية إعادة إعمار فيزيائي. ويجب أن يرتبط هذا التفكير ارتباطا وثيقا بالأخطار المحدقة واستشرافها، وتحديد استراتيجيات الاستجابة المناسبة والاستعداد لها، رغم عدم اكتمال تشكل تلك الأخطار، وهذه مرحلة ما قبل الكارثة (Pre Disaster).