مقالات

وادي السيليكون وشرارة الانهيار المصرفي

بقلم د. عمر محجوب محمد الحسين

شكل الصراع في أوكرانيا ضربة قوية للاقتصاد العالمي أدخلته في مرحلة التباطؤ، وأدت إلى زيادة سرعة التضخم وارتفاع أسعار الطاقة والغذاء، وما تبع ذلك من سياسات مالية ونقدية كان لها أثر بالغ على قطاعات اقتصادية مؤثرة. ما زاد الطين بلة أن العالم بدأ الدخول في مرحلة التعافي من آثار جائحة كوفيد – 19.

لا شك في أن التكامل المالي أدى تقارب الأسواق المالية في الاقتصادات المتقدمة، وعظم من فرص تعبئة رأس المال وفتح فرص استثمارية جديدة للمستثمرين الدوليين، لكن مع ذلك، يؤدي الاندماج والتكامل المتزايد إلى خفض الفرص المتاحة للمستثمرين لتنويع استثماراتهم، والأخطر أنه يؤدي إلى زيادة سرعة انتشار أية عدوى أزمة مالية؛ ودوننا الأزمة المالية في 2008م، وحديثا انهيار بنك سيلكون فالي الذي يعمل في قطاع التكنولوجيا.

قد تأثر بشدة قطاع التكنولوجيا الذي يتألف من الشركات التي تبيع السلع والخدمات في مجال الإلكترونيات والبرمجيات وأجهزة الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا المعلومات، حيث انهارت ثلاثة بنوك هي سيلكون فالي وسيغنتشر، وسيلفر غيت، وكانت هذه البنوك تغطي احتياجات الشركات، وتعمل مع قطاع صناعة التكنولوجيا، وبذلك فقد القطاع أكبر داعميه. تزامن مع ذلك تحذير مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني من مزيد من الصعوبات أمام القطاع البنكي في الولايات المتحدة، إثر أزمة البنوك الأخيرة، من جانبها قامت بنوك أميركية كبرى بضخ ما يقرب من 30 مليار دولار في بنك فيرست ريببليك للمساهمة في احتواء الأزمة، وتهدئة مخاوف المودعين من أن يكون البنك التالي الذي يصل مرحلة الانهيار بعد انهيار سيلكون فالي وسيغنتشر وسيلفر غيت، ونتيجة للمخاوف العالمية من التضخم وسط الاضطرابات في القطاع المصرفي بعد انهيار البنوك الأمريكية والصعوبات التي يواجهها بنك كريدي سويس أعلنت رئيسة البنك المركزي الأوروبي(ECB) كريستين لاغارد عقب اجتماع مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي في فرانكفورت أن البنك المركزي الأوروبي رفع أسعار الفائدة الرئيسية، بالإضافة إلى استعداده لتوفير السيولة للبنوك إذا لزم الأمر، وذلك لتلافي آثار اضطراب القطاع المصرفي الأخير. تأتي هذه التدابير رغم التأكيد على أن الوضع في أوروبا يختلف عن الوضع في الولايات المتحدة، حيث أن الودائع في البنوك الأوربية تركيزها أقل، وهناك استقرار في تدفقات الودائع، والتحول التنظيمي بعد أزمة 2008م المالية جعل البنوك الأوروبية تتمتع برأس مال جيد.

أثر التضخم وارتفاع أسعار الفائدة على قطاع التكنولوجيا ونمو الأسهم، بالإضافة إلى معاناة سوق العملات المشفرة من انهيار أسعار عملاته؛ نتيجة لذلك دخل القطاع في منطقة السوق الهابط وفقا لمؤشر ناسداك المركب، ومؤشر النمو العالمي MSCP حيث فقدت أسهمه أكثر من 20 % من أعلى مستوى وصلت إليه في عام 2022م، ونتيجة لهذه الضغوط قامت شركات التكنولوجيا بتسريح العمال بالآلاف وتشير التقديرات إلى أنه في عام 2022م تم تسريح أكثر من 120 ألف شخص من وظائفهم في بعض أكبر الشركات في مجال التكنولوجيا مثل Meta وAmazon وNetflix، والشركات الأصغر والشركات الناشئة، وسوف تزداد هذه الحالة سوءا كلما زادت أسعار الفائدة، يذكر أن محفظة سندات بنك سيلكون فالي بدأت في الانخفاض بمجرد رفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة في عام 2022 لمكافحة التضخم. يذكر أن مؤشر ناسداك المركب انخفض بنسبة 80٪ تقريبا من ذروته أثناء انفجار فقاعة الدوت كوم في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وفي ذروة الأزمة المالية العالمية في 2008-2009م. تأثر قطاع التكنولوجيا بشكل كبير لأن خدمات التكنولوجيا وقطاع الاتصالات بصورة عامة هي أصول طويلة الأجل لذلك تتأثر بأسعار الفائدة، علما بأن التضخم الذي حدث في الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة لم يحدث منذ 40 عاما مضت، ولم يكن لدى بنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي وبنك إنجلترا بد سوى رفع أسعار الفائدة لترويض القوى التضخمية والتحكم فيها. من جانب آخر سوف يزداد الأمر سوءا مع اتجاهات زيادة أسعار الفائدة ومخاطر هبوط الأسواق.

بالنسبة لأسهم قطاع التكنولوجيا المشكلة ليست فقط في ارتفاع أسعار الفائدة، لكن استنزاف السيولة في الأسواق المالية نتيجة لسياسيات التشديد الكمي (QT) وهي سياسة نقدية انكماشية تلجأ إليها البنوك المركزية لتقليل السيولة وتحجيمها وتقليل مستويات المعروض من النقد وبالتالي التأثير على النشاط الاقتصادي في ظل دخول الاقتصاد في مرحلة ارتفاع التضخم؛ في قطاع التكنولوجيا تتأثر أسهم القطاع سلبا باستنزاف السيولة في الأسواق وتراجعها. إن شركات قطاع التكنولوجيا استفادت في عام 2020م من جائحة كوفيد – 19 حيث توفر لها سوق واعد، حيث أنفق المستهلكون أموالا كبيرة على الخدمات الرقمية والإلكترونيات، وتوفر لدى شركات التكنولوجيا تدفقات كبيرة من النقد، وكانت هناك حاجة إلى خدمات بنك سيلكون فالي للاحتفاظ بأموالهم لنفقات تسيير الأعمال، استثمر بنك سيلكون فالي الكثير من هذه الودائع كما تفعل البنوك عادة.

أيضا استفادة أسهم قطاع التكنولوجيا من سياسة البقاء في البيوت التي نتجت عن جائحة كوفيد-19 حيث استفاد القطاع من سياسات التسيير الكمي (QE) التي أطلقتها البنوك المركزية في الأسواق المالية لمواجهة الأزمة الاقتصادية الناتجة عن الجائحة وتنشيط الاقتصاد. في سياسة التسيير الكمي تقوم البنوك المركزية بشراء أصول مالية بهدف زيادة القاعدة النقدية في الاقتصاد والحفاظ على معدل الفائدة في حدود الهدف من كمية الموال المحددة في الاقتصاد.

أما من الأسباب الخاصة المتعلقة بالانهيار الافتقار إلى التنويع والتشغيل المصرفي الكلاسيكي، حيث استثمر على سبيل المثال بنك سيلكون فالي مبلغًا كبيرًا من الودائع المصرفية في سندات الخزانة الأمريكية طويلة الأجل والأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري للوكالات ومعلوم أن قيمة سندات الخزانة تنخفض عندما ترتفع أسعار الفائدة؛ تزامن ذلك مع قيام العديد من العملاء بسحب ودائعهم في وقت واحد بسبب المخاوف من ملاءة البنك وقدرته على تلبية طلبات السحب، نتيجة عدم اتباع مبادئ إدارة المخاطر، على وجه التحديد لم يلتزم بإطار عمل لإدارة مخاطر السيولة، ومعايير حوكمة الشركات وإدارة المخاطر المناسبة، ومعايير إدارة المخاطر التشغيلية لمعالجة الملاءة المالية، واختبار الضغط، والسيولة، وقواعد الامتثال على النحو المنصوص عليه في قواعد لجنة بازل.

صحيح أن المساهمين والمستثمرين في بنك سيلكون فالي تلقوا ضربة قوية لأنه لا تشملهم تغطية شركة تأمين الودائع الفيدرالية على استثماراتهم؛ لكن ربما لا يؤثر انهيار ثلاثة بنوك على الاقتصاد الأمريكي أو العالمي، لأنها تعمل في قطاعات محددة مثل قطاع التكنولوجيا والقطاع الطبي الناشئ، بالإضافة إلى أن بنك سيكيلون فالي خارج نظام البنوك التقليدي منذ 2015م، حيث قام البنك مع بنوك أخرى ورأس ماليين أمريكيين بحملة للخروج عن قيود قانون دود فرانك الذي جاء نتيجة للأزمة المالية 2008م، وتمت إجازته في 2010م، وذلك للخروج عن رقابة مجلس مراقبة الاستقرار المالي وهيئة التصفية المختصة بمراقبة الاستقرار المالي للشركات المالية الكبرى، وعدم الخضوع لتصنيف مكتب التصنيف الائتماني التابع للجنة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، وذلك بإبعاد البنوك التي يقل رأس مالها عن 50 مليار دولار عن قيود قانون دود فرانك.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى