مقالات

اصلاح اقتصاد السودان- دونه خَرْطُ القَتاد

إن السياسات المبنية على حسن النية والوعود الدولية دائما لا تحدث أثرًا مالم يكن الواقع قد درس بإمعان وطبق عليه ما يناسبه من الخطط والبرامج، حيث أن الفجوة كبيرة جدا بين الواقع والخطط المستوردة المبنية على الوعود، بالإضافة الى القصور في اداء الحكومات وعدم الاستقرار الذى يؤدى الى الفشل في تطبيق اية سياسة اقتصادية حتى لو هيئ لها مسرح المساعدات والمنح الدولية سياسيا واقتصاديا؛ ويشكك الكثير من الاقتصاديين في جدوى المساعدات الاقتصادية التي تسعى الى التأثير على السياسات الاقتصادية والمجتمعات على اعتبار أنها دائما ما تزيد الوضع سوءًا دون أن تحسنه خاصة في الدول الفقيرة. من جانب آخر تحظى حاليا في اقتصاد التنمية وجهة النظر المؤسسية التي تميل الى أن المشكلة الحقيقية أمام التنمية ليس وضع سياسات جيدة، وانما حالة العملية السياسية، فاذا كانت هناك عملية سياسية ناجحة فسوف تكون السياسات الجيدة حاضرة، وعلى العكس من ذلك ففي غياب عملية سياسية سيكون من المستحيل التقدم في سياسة اقتصادية موضوعة سلفا أو سياسة جديدة.

رغم الاطروحات القائمة على أن خفض قيمة العملة أو تحرير سعر صرفها سوف يؤدى الى انعاش الاقتصاد ويعالج تشوهاته، نجد أن السودان منذ أن لجأ لأول مرة لخفض القيمة الاسمية للجنيه السوداني في العام 1980 بنسبة 25% أمام العملات الصعبة، بعد أن أجبره على ذلك صندوق النقد الدولي الذى كان يشارك في وضع سياسات سعر الصرف في السودان، بسبب حجج لا زلنا نسمعها ونعيدها مرة تلو الأخرى دون أن نستفيد من دروس الماضي، حيث ذكر الصندوق وقتها أن خفض قيمة الجنيه قد يقلل النقص في النقد الأجنبي، حيث تزداد الصادرات وتصبح أكثر ربحية؛ ومضت خطة خفض قيمة الجنيه رغم ان المسؤولين السودانيين قابلوا تلك الحجج بالشك، وأشاروا إلى الطبيعة غير المرنة لصادرات المنتجات الزراعية التي شكلت الجزء الاكبر من الصادرات السودانية في ذلك الوقت لن تمكن من تحقيق ميزة تحقيق المزيد من الايرادات الملموسة، ايضا كان من أسباب خفض قيمة الجنيه عجز الحكومة عن سداد الديون، والوصول الى مرحلة الحد الاعلى من العجز المسموح به والمقرر من صندوق النقد الدولي، وكان من الاسباب إحداث زيادة في قيمة العملة المتداولة لزيادة السيولة داخل البلاد ولكسب الأسواق الخارجية، وتغطية العجز في ميزان المدفوعات ولزيادة الإنفاق في عمليات التنمية؛ رغم أن قيمة الجنيه السوداني لم تكن متدهورة عند اتخاذ القرار بخفض قيمته وطباعة المزيد من الأوراق النقدية لتغطية العجز. في فبراير 2021م اتخذت حكومة حمدوك قرارًا بتحرير سعر صرف الجنيه امام الدولار من 55 جنيها الى 375 جنيه اي بنحو 582%، ليعيد التاريخ نفسه، وأرجعت الحكومة هذا القرار الى الرغبة في القضاء على تشوهات الاقتصاد السوداني، والحصول على منح ومساعدات وجلب استثمارات أجنبية وتحفيزها والمساعدة في اعفاء الديون الخارجية؛ لكن ما لم تقله الحكومة هو أن احد أهم أسباب تحرير سعر صرف الجنيه هو تطبيق برامج وخطط صندوق النقد والبنك الدوليين، وجدولة الديون والوصول إلى نقطة القرار في ما يتعلق بمبادرة الدول المثقلة بالديون، المعروفة اختصارا بـ “هيبك” (HIPC)، التي سوف تمكن السودان من الحصول على إعفاء جزء كبير من ديونه، وإقناع المانحين والمقرضين لتقديم المنح والهبات والقروض. قالت الحكومة وقتها عند اتخاذ قرار التحرير ان لديها احتياطيات كافية من النقد الأجنبي للتدخل متى ما دعت الضرورة، وأثبتت الايام أن وجود هذه الاحتياطيات لم يكن حقيقة أو أن حسابات وتقديرات الحكومة لم تكن دقيقة.

إن خفض قيمة العملة الوطنية يؤدى الى انخفاض قيمة الأرصدة النقدية للشركات والافراد مقارنة بالدولار والعملات الأجنبية الأخرى وبالتالي قدرتها على سداد ديونها، كما يؤثر بصورة كبيرة على الاسر الفقيرة، وتشير التقارير الى أن 77% من السودانيين يقبعون تحت خط الفقر، بدخل يومي للفرد لا يتجاوز دولار واحد و٢٥ سنت؛ ونسبة الفقر هذه أثرت على الاستهلاك وعلى السوق والإنتاج وبالتالي على الصناعة التي تضررت فعلا ولم تعد قادرة على استيراد المواد الخام نتيجة لانخفاض قيمة الجنيه.

اغفلت الحكومة أثر تحرير سعر الصرف الكبير على التضخم، بتأثيره على أسعار السلع المحلية، وأسعار الواردات بالعملة المحلية، بسبب ارتفاع نسبة الواردات الى جملة الاستهلاك، أيضا هناك أمر مهم وهو سريان ما يعرف ب “نظرية تعادل القوى الشرائية” لجوستاف كاسل، والتي تقوم على ان سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية يميل نحو الانخفاض بنفس نسبة ارتفاع الأسعار المحلية وهذا مشاهد وملاحظ في ميل سعر الصرف الجنيه نحو الانخفاض منذ قرار التحرير؛ أيضا أثر تحرير سعر الصرف على قيمة الأجور النقدية التي فقدت قيمتها ومنفعتها رغم الزيادة الكبيرة التي اقرها وزير المالية الأسبق إبراهيم البدوي، وهذا بدوره اثر على فعالية سياسات تحرير سعر الصرف حيث أن مرونة الأجور صفرية، حيث أن اية فعالية لخفض قيمة العملة تتوقف على عامل مرونة الأجور الاسمية ومرونة الأسعار. وعادة تتأثر القوى الشرائية للعملة بعدد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واهم هذه العوامل درجة الاستقرار السياسي، وانتاجية العمل ورأس المال ومعدلات الاستثمار، ومستويات التضخم وحجم الاحتياطي من العملات الأجنبية.

سبق قرار تحرير سعر صرف الجنيه وخفض قيمته رسميا تطبيق سياسة صندوق النقد الدولي الخاصة بإلغاء الدعم الحكومي للسلع الأساسية، وطبق قرار رفع الدعم دون اية إجراءات تساعد الفقراء وأصحاب الدخل المحدود مما القى مزيدا من العبء على المواطنين وزاد الطين بلة، فلم نشاهد اصلاح ضريبي ولا مؤسسي ولم يستقر سعر الصرف حتى الآن.

ان الحكومة ومنذ الثورة اضاعت وقتا ثمينا بالاعتماد بصورة كاملة على المجتمع الدولي والمانحين، وانتظار المساعدات والهبات دون وجود برنامج اقتصادي وطني، ولم تحدثنا اية حكومة حتى الآن عن برنامج وطني خالص سوى عن تطبيق خطط صندوق النقد الدولي لاقتصاد السودان.

خلاصة القول أن تحرير سعر صرف الجنيه لم يكن تصحيحا للقيمة حيث ان السودان لا يتمتع بصادرات صناعية ذات قيمة وانما تنحصر صادراته في المنتجات الزراعية والحيوانية وهى صادرات غير مرنة لن تمكن من تحقيق ميزة تؤدى الى تحقيق المزيد من الايرادات الملموسة كما ذكرنا انفا؛ أيضا وبعد تطبيق سياسة التحرير ورفع الدعم هل انخفض عجز الميزان التجاري، وهل تحققت احتياطيات من العملات الأجنبية، وهل زاد انتاجنا للسلع والخدمات، وهل تحسنت بيئة الاستثمار، وهل اتجه الطلب على المنتجات المحلية نحو الصعود في الأسواق الخارجية وحتى المحلية، وهل انخفض التضخم الذى وصل الى أكثر من 300%، وازدادت نسبة انخفاض الجنية؛ كما أن احداث انقلاب 25 أكتوبر القت بظلالها على الوضع الاقتصادي بصورة عامة؛ من جانب آخر نتيجة للوضع الاقتصادي المتدهور حدث نوع من العنف والتقاعس عن أداء المسؤولية وهذا أدى الى انعدام الكفاءة في كل القطاعات.

إن الحكومة ومنذ الثورة نجحت في شيء واحد وهو انتظار مساعدات وهبات وقروض المجتمع الدولي؛ والتي تمنح وتمنع حسب الرغبة في احداث الضغط السياسي دون مراعاة لمصلحة الشعوب وهو ما حدث إثر انقلاب البرهان.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى